مــــع ابــــــن ســــــعـــيـــد الأنـــدلــــســـي الــــمـــغــربــي فــــي وصــــا يـــا ه لــــولــــــده

                             وصايا ابن سعيد المغربي الأندلسي لولده

هو علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي المعروف بابن سعيد المغربي من ذرّية عمّار بن ياسر "صحابي من المسلمين الأوائل"ولد ب"قلعة يحصيب" قرب غرناطةبالأندلس سنة:1214م.وقد اشتهر ابن سعيد بثقافته الواسعة في التاريخ والشعر والأدب،وقد نشأ وتعلّم  في مدينة غرناطة الأندلسية،وقام برحلة زار فيها العراق ومصر والشّام ،وتوفي في تونس سنة1286م.

 ومعلوم أنّ شهرته قامت على مؤلّفه النّفيس"طبقات الشعراء" الذي صنّف فيه كلاّ من شعراء الجاهلية وشعراء صدر الإسلام إلى عشر طبقات.وقد أفرد منهم شعراء القرى واليهود وأصحاب المراثي.وفاضل بين الشعراء على أساس كثرة الشعر وتعدّد أغراضه وجودته.وكتابه هذا يعتبر من أقدم الكتب في تاريخ الأدب العربي حيث حاول تفسير الظواهر الأدبية،وتمحيص النّصوص القديمة.وله كذلك"نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب"و"ريحانة الأدب"وغيرها من المؤلفات النفيسة.

 أمّا شعره فقد جاء رقيقا جزلا تنبعث منه روح الإبداع في وصاياه لابنه وهو ينصحه:

               أودعــــك الله في غــــــربتك*****مرتقبا رحـــــماه في أوبتك

                فلا تطـــــل حبل النّوى إنّني*****والله أشتاق إلى طــــلعتك

                واختصر التّــــــوديع أخذا فما*****لي ناظر يقوى على فرقتك

               واجعل وصاتي نصب عين ولا*****تبرح مـدى الأيّام من فكرتـك

               خلاصة الـــــعمر التي جنّكت*****في ساعة زفّت إلى فطنتك

               فللـــــــــتّجارب أمــــــورا إذا*****طالــــعتها تشحذ من غفلتك

              فلا تنم عن وعـــــــيها ساعة*****فإنّـــــــها عون على يقظتك

              وكلّ ما كابدته فــــــي النّوى*****إيّاك أن يكــــــسر من همّتك

               فليس يدرى أصــل ذي غربة*****وإنّـــــــما تعرف من شيمتك

             وامش الهوينا مــــــظهرا عفّة*****وابغ رضا الأعـــين عن هيئتك

           وانطق بحيث العيّ مستقبح*****واصمت بحيث الخير في سكتتك

            ولـــج على رزقك من بابــه*****واقصـــد له ما عشت في بكرتك

            ووفّ كـــلاّ حـــــقّه والتكن*****تكسر عـــــــــند الفخر من حدّتك

            وحيثما خيّمت فاقصد إلى*****صــــــحبة من ترجوه في نصرتك

            وللـــــرّزايا وثـــــــبة ما لها*****إلاّ الذي تذخــــــر من عـــــــدّتك

            ولا تقل أسلـم لي وحدتي*****فقد تقاسي الـــــذلّ في وحدتك

            والــــــتزم الأحوال وزنا ولا*****ترجـــــع إلى ما قام في شهوتك

            والتجعل العقل محكّا وخذ*****كلاّ بما يظــــــــــــــهر في نقدتك

             واعتبر النّاس بألفاظـــهم*****واصحب أخا يــــرغب في صحبتك

             كم  صديق مظهر نصـحه*****وفكــــــــــــره وقف على عثرتك

             إيّاك أن تقـــــــربه إنّــــه*****عون مـــــــــــع الدّهر في كربتك

             وانم نمو النّـــبت قد زاره*****غبّ النّـــــــدى واسم إلى قدرتك

            ولا تضيّــــــع زمنا ممكنا*****تذكاره يذكـــــــــي لظى حسرتك

          والشرّ مهما استطعت لا تأته*****فإنّه حــــــــــــوز على مهجتك

 يابنيّ الذي لا ناصح له مثلي،ولا نصوح لي مثله،قد قدّمت لك في هذا النّظم ما إن أخطرته بخاطرك في كلّ أوان رجوت لك حسن العاقبة إن شاء الله تعالى.وإنّ أخفّ منه للحفظ  وأعلق بالفكر  وأحقّ بالتّقدّم قول الأوّل:

           يزين الفتــــى إذا ما اغترب*****ثلاث فـــــــــمنهنّ حسن الأدب

           وثانية حــــــــــسن أخلاقه*****وثالــــــثة اجتــــــــــناب الريب

واصغ يابنيّ إلى البيت الذي هو يتيمة الدّهر وسلّم الكرم والصّبر:

          ولو أنّ أوطان الديّار نبت بكم*****لسكـــــــــــــنتم الأخلاق والآدابا

 إذ حسن الخلق أكرم نزيل،والأدب أرحب منزل.والتكن كما قال أحدهم في أديب متغرّب:وكان كلّما طرأ على ملك فكأنّه معه ولد وإليه قصد.وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه ،فاجعل التّكلّف له سلّما وهبّ في روض أخلاقه هبوب النّسيم ،وحلّ بطرفه حلول المبتسم ،وانزل بقلبه نزول المسرّة حتّى يتمكّن منك وداده،ويخلص فيك اعتقاده.وطهّر من الوقوع فيه لسانك ،وأغلق سمعك ولا ترخّص في جانبه لحسود لك منه يريد إبعادك عنه لمنفعته،أو حسود له يغار لتجمّله بصحبتك.ومع هذا يجب ألاّ تغترّ بطول صحبته،ولا تتمهّد بدوام رقدته،فقد ينبّهه الزّمان،ويتغيّر منه القلب واللّسان.وإنّما العاقل من جعل عقله معيارا وكان كالمرآة يلقى كلّ وجه بمثاله.وفي أمثال العامّة:من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل.فاحتذ بأمثلة من جرّب ،واستمع إلى ما خلّد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال،فإنّها خلاصة أعمارهم وزبدة تجاربهم .ولا تتّكل على عقلك وحده،فإنّ النّظر في ما تعب فيه النّاس طول أعمارهم وابتاعوه غاليا بتجاربهم يربحك ويقع عليك رخيصا.وإن رأيت من له عقل ومروءة وتجربة فاستفد منه ولا تضيّع لا قوله ولا فعله،فإنّ في ما تلقاه تلقيحا لعقلك وحثّا لك واهتداء.وليس كلّ ما تسمعه من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتّبعه حتّى تتدبّره،فإن كان موافقا لعقلك مصلحا لحالك فراع ذلك عندك ،وإلاّ فانبذه نبذ النّواة،فليس لكلّ أحد يبتسم،ولا كلّ شخص يكلّم،ولا الجود ممّا يعمّ به،ولا حسن الظنّ وطيب النّفس ممّا يعامل به كلّ أحد.وللّه درّ من قال:

           ومالي لا أوفّي البرية قسطها*****على قدر ما أعطي وقلبي ميزان

وإيّاك أن تعطي من نفسك إلاّ بقدر،فلا تعامل الدّون بمعاملة الكفؤ،ولا الكفؤ بمعاملة الأعلى.ولا تضيّع عمرك في من يعاملك بالمطامع ويثنيك عن مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة.ولا تجف النّاس بالجملة،ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه لا ملل ولا ضجر ولا جفاء.فمتى فارقت أحدا فعلى حسنى في القول والفعل فإنّك لا تدري هل أنت راجع إليه أم لا،فلذلك قال القوم الأوّل:ولمّا مضى سلم بكيت على سلم.وإيّاك والبيت السّائر:

        وكنت إذا حــــــــــللت بدار قوم*****رحلت بخــــــــــــــزية وتركت عارا

واحرص على ما جمع قول القائل:ثلاث تبقي لك الودّ في صدر أخيك،أن تبدأه بالسّلام،وتوسّع له في المجلس،وتدعوه بأحبّ الأسماء إليه.واحذر كلّ ما بيّنه القائل: كلّ ما تغرسه تجنيه إلاّ ابن آدم  فإذا غرسته يقلعك.وقول آخر:ابن آدم ذئب مع الضعف أسد مع القوّة .وإيّاك أن تثبت على صحبة أحد حتّى تختبره.وقد ورد في مجرى الحكايات أنّ عبد الله بن المقفّع خطب من الخليل الفراهيدي صحبته.فأجابه قائلا:إنّ الصحبة رقّ ولا أضع رقّي في يديك حتّى أعرف كيف ملكتك.واستمل يابني من عين من تعاشره وتفقّد في فلتات اللّسان وصفحات الأوجه،ولا يحملك الحياء على السّكوت عمّا يضرّك أن لا تبيّنه فإنّ الكلام سلاح السّلم،وبالأنين يعرف ألم الجرح.واجعل لكلّ أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك.واقبل من الدّهر ما أتاك.فمن قرّ بعيشه نفعه،إذ الأفكار  تجلب الهموم ،وتضاعف الغموم .وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب،يستريب به الصاحب،ويشمت العدوّ والمجانب،إذ الوساوس لا تضرّ بها إلاّ نفسك وبها تنصر الذّهر عليك.وللّه درّ القائل:

       إذا ما كنـــــــــــــت للأحزان عونا*****عليك مع الزّمان فمن تلــــــــــــوم؟

مع أنّه لا يردّ عليك الغائب الحزن،ولا يرعوي بطول عتبك الزّمن.ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد ألفته الهموم،وعشقته الغموم.فمنذ صغره إلى كبره لا تراه أبدا خليّا من فكرة حتّى لقّب بصدر الهمّ.ومن أعجب ما رأيته منه أنّه يتنكّد في الشّدّة ولا يتعلّل بأن يكون بعدها فرج ويتنكّد في الرّخاء خوفا من أن لا يدوم منشدا:توقّع زوالا إذا قيل تمّ.وعند التّناهي يقصر المتطاول.ولهذا الرجل حكايات في هذا الشّأن يرافقها العجب العجاب.ومثل هؤلاء أعمارهم مخسورة تمرّ ضياعا.ومتى رفعك الزّمان إلى قوم يذمّون من العلم  ما تحسنه حسدا لك وقصدا لتصغير قدرك عندك وتزهيدا لك فيه،فلا يحملك على أن تزهد في علمك وتركن إلى العلم الذي مدحوه،فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلّمه فصعب عليه،ثمّ أراد أن يرجع إلى مشيته فنسيها فبقي مخبّل المشي كما قيل:

      إنّ الغراب وكان يمشــــي مشــية*****في ما مـــــــضى من سالف الأجيال

      حسد القطا وأراد أن يمشي مشيها*****فأصـــــابه ضــــــرب من العــــــقّال

     فأضلّ مشيته وأخــــــــــطأ مشيها*****فلذاك كــــــنّوه أبــــــــا مــــــــرقال

 ولا يفسد خاطرك من جعل يذمّ الزّمان وأهله ويقول:ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل ولا مكان يرتاح فيه،فإنّ الذين تراهم على هذه الصّفة أكثر ما يكونون ممّن صحبهم الحرمان واستخفّت طلعتهم للهوان ،وأبرموا على النّاس بالسّؤال فمقتوهم ،وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها فاستراحوا إلى الوقوع في النّاس،بعد أن أقاموا الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم.وقد قال أحدهم:

    لـــــــــن إذا ما لنـــــــت عــــــــــزّا*****فـــــــــأخو العــــــــزّ يلـــــــــــــــين

    فــــــإذا نابــــــك الـــــــدّهــــــــــر*****فكــــــــما كنـــــــــــت تكـــــــــــون

 والأمثال تضرب لذي اللّبّ الحكيم،وذو البصيرة يمشي على الصراط المستقيم ،والفطن يقنع بالقليل ويستدلّ باليسير.والله سبحانه وتعالى خليفتي عليك لا ربّ سواه.

                                                                                          محمد الدبلي الفاطمي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مع أبي الحــــسن ابــــــــن زنباع الطــــنجاوي في الطبــــيعة

سبينوزا وهوبز

هواتف مهمّة