سبينوزا وهوبز

ان الدارس لحياة هوبز وفلسفته يستخلص ان الصراع بينه وبين رجال الدين المسيحي بدا مبكرا وخاصة بعد اصدار توماس هوبز لكتابه (مبادئ القوانين) سنة 1650م والذي دافع فيه عن النزعة المطلقة في الحكم بما يتعارض و روح الدين مما دفع الكنيسة تتخذ منه موقفا معارضا وصل الى حد منع الكتاب من التداول و قد برزت نزعة هوبز الالحادية بالخصوص في كتابه (في الجسم) الذي هاجم فيه رجال الدين المسيحي واصفا اياهم بالدجل .
واما في كتابه (التنين او الوحش الكاسر) الذي صدر عام 1652م فقد اعتبر الدين مجرد اكاذيب و تضليل اخترعتها البشرية نتيجة لخوفها من القوى الشريرة و جهلها بالعدل وهذا ما دفعها الى عبادة ما تخشاه وتهابه مما دفع المشرعين القدماء في الامم الوثنية الى استغلال ذلك و جعلوا تعاليمهم صادرة عن الله.رغبة في استغلال الدين لتحقيق رغباتهم الخاصة.وقد اكد ماكيافللي هذه الرغبة عندما اشار الى استخدام الرومان (الدين في اصلاح احوال مدينتهم وفي المضيء في حروبهم)"
واما عن مصير الدين فيؤكد هوبز على انه سينتهي الى الزوال، اذ تأكد للناس بأن مؤسسي الاديان وزعمائها لا يتمتعون بالحكمة والاخلاص ، والى قريب من هذا ذهب ماكيافللي من فبل عندماقال: " عندما شرع العرافون من قول ما يسر الاقوياء فحسب ، وعندما اكتشف الشعب هذا التضليل ، أخذ يشك في حقيقتهم"
ومما سبق نستخلص هوبز ضرورة عزل الدين ورجاله من التدخل في سلطة الدولة حفاظا على سيادتها ولتوحيد السلطات لابد من خضوع الكنيسة للدولة على اعتبار أنه لا وجود لسلطة دينية التي ليست الا بدعة اختلقها الخيال.

تختلف فلسفة سبينوزا في هذه المجالات عن كل الفلسفات السابقة عليه، بل واللاحقة أيضًا، حتى ليبدو سبينوزا وكأنه يقف وحده بين مفكري العصر الحديث، ما عدا اقتراب فولتير وروسو والفلاسفة الماديين الفرنسيين في أواخر القرن الثامن عشر منه. ووجه الاختلاف أن الفلاسفة المحدثين قبل سبينوزا والمعاصرين له جروا على عادة فلاسفة العصور الوسطى في محاولاتهم التوفيق بين اللاهوت أو الدين والإيمان من جهة والعقل أو الفلسفة من جهة أخرى، وإثبات عدم تعارضهما أو تناقضهما، بحيث أصبح العقل لديهم أوليًا في إثبات صحة بعض العقائد اللاهوتية المعنية. وبذلك رأينا في العصور الوسطى سلسلة من الفلاسفة بين القديس أوغسطين في القرن السادس الميلادي والقديس توما الأكويني في القرنين الثاني عشر والثالث عشر يستخدمون حججًا عقلية في إثبات صحة اللاهوت. ولم يخرج فلاسفة الإسلام عن ذلك، إذ ظهرت في الفلسفة الإسلامية مذاهب كلامية أهمها المعتزلة والأشاعرة هدفت الدفاع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، وظهرت أيضًا فلسفات تحاول التوفيق بين العقل والنقل، أهمها محاولة ابن رشد في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»، و«درء تعارض العقل والنقل» لابن تيمية. ولم يكن فلاسفة العصر الحديث استثناء في هذا الاتجاه، إذ رأينا كيف أن ديكارت يستخدم منهجاً عقلياً يبدأ بالشك كي ينتهي إلى وجود الأنا أفكر، ووجود الإله وخلود النفس، وقد سار في الاتجاه نفسه بعد سبينوزا كل من مالبرانش وباسكال من الفرنسيين ولايبنتز وكرستيان فولف من الألمان، حتى أن كانط نفسه بعد أن نقد أولاً وجود الإله وخلود النفس في «نقد العقل الخالص» عاد في «نقد العقل العملي» إلى توضيح أن الأخلاق لا يمكن أن تقوم لها قائمة دون التسليم، من باب الضرورات العملية الأخلاقية، بوجود الإله وخلود النفس.
ويميل سبينوزا إلى الرأي القائل أن الإيمان طريق ضروري لقيادة العامة، ذلك لأن الكتاب المقدس يعتمد في نصوصه على الخيال التصويري والمجاز وضرب الأمثلة، ولغته خطابية حماسية. والجمهور لا يستطيع الوصول إلى المبادئ الأخلاقية عن طريق النظر العقلي والتفلسف والبرهان مثلما يفعل الفلاسفة[21]، ولذلك فهو في حاجة إلى من يقدم له حقائق الأخلاق بالأسلوب الخيالي والمجازي في صورة مباشرة، وعلى أنها قوانين مفروضة في صورة شريعة. ذلك لأن العامة لا يستطيعون التوصل بتفكيرهم الخاص إلى الصواب والخطأ وهم في حاجة دائمة إلى من يقودهم ويقدم لهم القواعد جاهزة، وهذا ما يوفره لهم الدين. وإذا كانت الغاية من الحياة الإنسانية هي السعادة، فإن الدين يقدم للعامة طريقًا مختصرًا وبسيطًا للوصول إليها، وهو الطاعة والخضوع والالتزام بالأوامر الإلهية، وهذا ضروري بالنسبة لهم لأن طريق النظر العقلي إلى السعادة والمتمثل في إدراك طبيعة الوجود والقانون الطبيعي الذي إذا اتفق سلوك الإنسان معه تحققت له السعادة ليس متاحًا للعامة بل هو خاص بأصحاب العقل والتفكير الفلسفي. ولذلك يذهب سبينوزا إلى ضرورة التسليم بسلطة الدين والكتب المقدسة وعدم إخضاعها للعقل، لأن هذا الإخضاع إما أن يؤدي إلى انهيار كثير من العقائد الضرورية أو يولد الاختلافات اللاهوتية والمذهبية التي يجب على الإيمان الحقيقى تجنبها، لأن هدفه النهائي ليس نظريًا بل عمليًا، ليس هدفه إثبات عقائد معينة بل هدفه التقوى والطاعة والعدل والإحسان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مع أبي الحــــسن ابــــــــن زنباع الطــــنجاوي في الطبــــيعة

هواتف مهمّة